فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال بعضهم: الحق وقوع الأمرين جميعًا إعادة ما انعدم بعينه وإعادة ما تفرق بإعراضه وهو حسن، والكلام في هذا المقام طويل جدًا ولعل الله سبحانه وتعالى يمن علينا باستيفائه ولو في مواضع متعددة.
{وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا} وهو ميقات إعادتهم وحشرهم أو موتهم وهو على هذا اسم جنس لأن لكل أحد أجلًا للموت يخصه، وقد جاء إطلاق الأجل على الموت ووجهه أنه يطلق على مدة الحياة وعلى آخرها والموت مجاور لذلك {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي لا ينبغي الريب فيه والإنكار لمن تدبره أو النفي على ظاهره، والجملة معطوفة على {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} وهي وإن كانت إنشائية وفي عطف الإخبارية عليها مقال مؤولة بخبرية والعطف على الصلة فيما مر متعذر للفصل بخبر أن.
وكذا على ما بعد أن المصدرية لفظًا ومعنى والمعنى كما في الكشف وغيره قد علموا بدليل العقل أن الله تعالى قادر على إعادتهم وقد جعل أجلًا لها لا ريب فيه فلابد منها أي إذا كان ذلك ممكنًا في نفسه واجب الوقوع بخبر الصادق لا يبقى للإنكار معنى فإن كان الأجل بمعنى ميقات إعادتهم أي يوم القيامة لقولهم {أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا} [الإسراء: 98] وهو الظاهر فهو واضح، وإن كان بمعنى الموت فوجهه أنهم قد علموا إمكانه وأنهم ميتون لا محالة منسلخون من هذه الحياة وأنه لابد لهم من جزاء فلم يخلقوا عبثًا ولم يتركوا سدى ففيم الإنكار، وكأنه قد اكتفى بالموت عما بعده لأنه أول القيامة ومن مات فقد قامت قيامته فالعطف في التقدير على قد علموا، ويعلم من هذا التقرير أن الجامع بين الجملتين لصحة العطف في غاية القوة.
وزعم القطب أن الأولى العطف على ما بعد أن المصدرية أما أولًا فلأنه أقرب، وأما ثانيًا فلأن جعل الأجل يدخل حينئذٍ تحت قدرته تعالى وتحت علمهم بخلاف ما إذا عطف على قوله سبحانه: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} إلخ ولا يخفى ما فيه على من استدارت كرة فكره على محور التحقيق {فأبى الظالمون} الذين كفروا بالآيات وقالوا ما قالوا، ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلًا عليهم بالظلم وتجاوز الحد بالمرة {إِلاَّ كُفُورًا} أي جحودًا.
{قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ} أي خزائن نعمه التي أفاضها على كافة الموجودات فالرحمة مجاز عن النعم والخزائن استعارة تحقيقية أو تخييلية، و{أَنتُمْ} على ما ذهب إليه الحوفي والزمخشري وأبو البقاء وابن عطية وغيرهم فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور لأن لو يمتنع أن يليها الاسم والأصل لو تملكون تملكون فلما حذف الفعل انفصل الضمير، ومثل ذلك قول حاتم وقد أسر فلطمته جارية لو ذات سوار لطمتني، وقول الملتمس:
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ** جعلت لهم فوق العرانين ميسما

وفائدة الحذف والتفسير على ما قيل الإيجاز فإنه بعد قصد التوكيد لو قيل تملكون تملكون لكان إطنابًا وتكرارًا بحسب الظاهر، والمبالغة لتكرير الإسناد أو لتكرير الشرط فإنه يقتضي تكرر ترتب الجزاء عليه والدلالة على الاختصاص وذلك بناءً على أن {أَنتُمْ} بعينه ضمير {تَمْلِكُونَ} المؤخر فهو في المعنى فاعل مقدم وتقديم الفاعل المعنوي يفيد الاختصاص إذا ناسب المقام فيفيد الكلام حينئذٍ ترتب الإمساك، وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى المراد منه على تفردهم بملك الخزائن ويعلم منه ترتبه على ملكها بالاشتراك بالطريق الأولى، وإلى تخريج مثل هذا التركيب على هذا الطرز ذهب البصريون بيد أن أبا الحسن بن الصائغ وغيره صرحوا بأنهم يمنعون إيلاءً لو فعلًا مضمرًا في الفصيح ويجيزونه في الضرورة وفي نادر كلام، ولعل شعر المتلمس ومثل حاتم عندهم من ذلك والحق خلاف ذلك.
وقال أبو الحسن علي بن فضالة المجاشعي: إن التقدير لو كنتم أنتم تملكون، وظاهره أن أنتم عنده توكيد للضمير المحذوف مع الفعل وليس بشيء، وقال أبو الحسن بن الصائغ: إن الأصل لو كنتم تملكون فحذفت كان وحدها وانفصل الضمير فهو عنده اسم لكان محذوفة وجملة {تَمْلِكُونَ} خبرها وعلى هذا تخرج نظائره.
قال أبو حيان بعد نقل ما تقدم: وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد لو معهود في لسان العرب، ولا يخفى أن الكلام على ما سمعت أولًا أفيد وإن كان الظاهر أن الإمساك على هذا يكون على استمرار الملك، والمراد من الإمساك البخل وذلك لأن البخل إمساك خاص فلما حذف المفعول ووجه إلى نفس الفعل بمعنى لفعلتم الإمساك جعل كناية عن أبلغ أنواعه وأقبحها، وإلى كونه كناية عما ذكر ذهب صاحب الفرائد وغيره.
وجوز أن يكون مضمنًا معنى البخل.
وتعقب بأنه ليس بشيء لفظًا ومعنى، وعلى ما ذكرنا يتخرج قولهم للبخيل ممسك {خَشْيَةَ الإنفاق} أي مخافة الفقر كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس وروي نحو عن قتادة وإليه ذهب الراغب قال: يقال أنفق فلان إذا افتقر، وأبو عبيدة قال: أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد، وقال بعضهم: الإنفاق بمعناه المعروف وهو صرف المال، وفي الكلام مقدر أي خشية عاقبة الإنفاق.
وجوز أن يكون مجازًا عن لازمه وهو النفاد، ونصب {خَشْيَةَ} على أنه مفعول له، وجعله مصدرًا في موضع الحال كما جوزه أبو البقاء خلاف الظاهر، وقد بلغت هذه الآية من الوصف بالشح الغاية القصوى التي لا يبلغها الوهم حيث أفادت أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله تعالى التي لا تتناهى وانفردوا بملكها من غير مزاحم أمسكوها من غير مقتض إلا خشية الفقر، وإن شئت فوازن بقول الشاعر:
ولو أن دارك أنبتت لك أرضها ** ابرا يضيق بها فناء المنزل

وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ** ليخيط قد قميصه لم تفعل

مع أن فيه من المبالغات ما يزيد على العشرة ترى التفاوت الذي لا يحصر، وجعل غير واحد الخطاب فيها عامًا فيقتضي أن يكون كل واحد من الناس بخيلًا كما هو ظاهر ما بعد مع أنه قد أثبت لبعضهم الإيثار مع الحاجة.
وأجيب بأن ذلك بالنسبة إلى الجواد الحقيقي والفياض المطلق عز مجده فإن الإنسان إما ممسك أو منفق والإنفاق لا يكون إلا لغرض للعاقل كعوض مالي أو معنوي كثناء جميل أو خدمة واستمتاع كما في النفقة على الأهل أو نحو ذلك وما كان لعوض كان مبادلة لا مباذلة أو هو بالنظر إلى الأغلب وتنزيل غيره منزلة العدم كما قيل:
عدنا في زماننا ** عن حديث المكارم

من كفى الناس شره ** فهو في جود حاتم

وهذا الجواب عندي أولى من الأول وعلى ذلك يحمل قوله تعالى: {وَكَانَ الإنسان قَتُورًا} مبالغًا في البخل، وجاء القتر بمعنى تقليل النفقة وهو بإزاء الإسراف وكلاهما مذموم ويقال قترت الشيء واقترته وقترته أي قللته وفلان مقتر فقير، وأصل ذلك كما قال الراغب من القتار والقتر وهو الدخان الساطع من الشواء والعود ونحوهما فكأن المقتر والمقتر هو الذي يتناول من الشيء قتاره، وقيل الخطاب لأهل مكة الذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع والأنهار وغيرها، والمراد من الإنسان كما في القول الأول الجنس ولا شك في أن جنس الإنسان مجبول على البخل لأن مبنى أمره الحاجة، وقيل الإنسان وعليه الإمام، ووجه ارتباط الآية بما قبلها على تخصيص الخطاب أن أهل مكة طلبوا ما طلبوا من الينبوع والأنهار لتكثر أقراتهم وتتسع عليهم فبين سبحانه أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله تعالى لبخلوا وشحوا ولما قدموا على إيصال النفع لأحد، والمراد التشنيع عليهم بأنهم في غاية الشح ويقترحون ما يقترحون أو المراد أن صفتهم هذه فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا كذا قال العسكري وغيره فالآية عندهم مرتبطة بقوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] ويكفي على العموم اندراج أهل مكة فيه.
وقال أبو حيان: المناسب في وجه الارتباط أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام قد منحه الله تعالى ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن فهو صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على إيصال الخير إليهم وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله تعالى ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحًا بذلك لا يطلب منهم أجرًا وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلا الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه فلا يصل منهم إليه إلا الأذى فنبه تعالى شأنه بهذه الآية على سماحته عليه الصلاة والسلام وبذل ما آتاه الله تعالى وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه صلى الله عليه وسلم فهي قد جاءت مبنية تباين ما بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم من حرصه على نفعهم وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه اهـ.
فالارتباط بين الآية وبين مجموع الآيات السابقة من حيث أنها تشعر بحرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم ولعمري إن هذا مما يأباه الذوق السليم والذهن المستقيم.
ويحتمل أن يكون وجه الارتباط اشتمالها على ذمهم بالشح المفرط كما أن ما قبلها مشتمل على ذمهم بالكفر كذلك وهما صفتان سيئتان ضرر إحداهما قاصر وضرر الأخرى متعد فتأمل فلمسلك الذهن اتساع والله تعالى أعلم بمراده. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَمَن يَهْدِ اللّهُ} أي: إلى الحق بما جاء من قبله إلى الهدى: {فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ} أي: يخلق فيه الضلال بسوء اختياره، كهؤلاء المعاندين: {فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ} أي: أنصارًا يهدونهم ويحفظونهم من قهره، وإنما أوثر ضمير الجماعة في {لهم} حملًا على معنى {من} وأوثر في ما قبله الإفراد، حملًا على اللفظ. وسر الاختلاف في المتقابلين الإشارة إلى وحدة طريق الحق، وقلة سالكيه، وتعدد سبل الضلال وكثرة الضُّلالِ: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} أي: يسحبون عليها كقوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48].
وقال القاشاني: أي: ناكسي الرؤوس لانجذابهم إلى الجهة السفلية! وعلى وجوداتهم وذواتهم التي كانوا عليها في الدنيا. كقوله: كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون إذ الوجه يعبر به عن الذات الموجودة مع جميع عوارضها ولوازمها. أي: على الحالة الأولى من غير زيادة ونقصان. وقوله تعالى: {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} أي: كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق، ويتصامّون عن استماعه؛ فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقر أعينهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء: 72]. كذا في الكشاف.
{مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ} أي: سكن لهيبها، بأن أكلت جلودهم ولحومهم: {زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} أي: توقدًا. بأن نبدل جلودهم ولحومهم، فتعود ملتهبة مستعرة.
قال الزمخشري: كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء، جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها، ثم يعيدها. لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث. ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد.
وقد دل على ذلك بقوله: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} أي: لمحيون خلقًا جديدًا، بإعادة الروح فينا، إذا تلف لحمنا وبقينا عظامًا. بل رقت عظامنا فصارت رفاتًا. ثم احتج تعالى عليهم، ونبههم على قدرته على ذلك بقوله:
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} أي: يعلموا: {أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أي: يوم القيامة. ينشئهم نشأة أخرى ويعيدهم كما بدأهم. والمعنى: قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السماوات والأرض، فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس؛ لأنهم ليسوا بأشد خلقًا منهن. كما قال: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} ولا الإعادة أصعب عليه من الإبداء، بل هي أهون.
قال الشهاب: ولا حاجة إلى جعل {مثل} هنا كناية عنهم. كقوله: مثلك لا يبخل مع أنه صحيح. ولو جعل خلق مثلهم عبارة عن الإعادة، كان أحسن: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لاَّ رَيْبَ فِيهِ} أي: جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلًا مضروبًا ومدة مقدرة لابد من انقضائها. كما قال تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود: 104]، {فَأَبَى الظَّالِمُونَ} أي: بعد قيام الحجة عليهم ووضوح الدليل: {إَلاَّ كُفُورًا} أي: جحودًا وتماديًا في باطلهم وضلالهم.
لطيفة:
قال الشهاب: هذه الجملة- جملة وجعل إلخ- معطوفة على جملة: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} لأنها وإن كانت إنشائية، فهي مؤولة بخبرية كما في شرح الكشاف إذ معناها: قد علموا بدلالة العقل أنه قادر على البعث والإعادة: {وَجَعَلَ لَهُمْ} أي: لإعادتهم: {أَجَلًا} وهو يوم القيامة، يعني أنهم علموا إمكانها وإخبار الصادق بها وضربه لها أجلًا. فيجب التصديق به. أو جعل لهم أجلًا، وهو الموت والانسلاخ عن الحياة. ولا يخفى على عاقل أنه لم يخلق عبثًا. فلابد أن يجزى بما عمله في هذه الدار. فلا معنى للإنكار. فظهر ارتباط المتعاطفين، لفظًا ومعنى، و: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} ظاهر على الثاني. وعلى الأول معناه: لا ينبغي إنكاره لمن تدبر. وقيل: إنها معطوفة على قوله: {يَخْلُقَ}.
وقوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} أي: رزقه وسائر نعمه على خلقه: {إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ} أي: لبخلتم بها مخافة نفادها بالإنفاق، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدًا؛ لأن هذا من طباعكم وسجاياكم. ولهذا قال سبحانه: {وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا} أي: بخيلًا.
تنبيهات:
الأول: هذه الآية بلغت بالمشركين، من الوصف بالشح، الغاية التي لا يبلغها الوهم، كما قاله الزمخشري.
الثاني: ما اقتضاه آخر الآية من بخل كل أحد، فأما بالنسبة إلى الجواد الحقيقي سبحانه؛ لأن المرء إما ممسك أو منفق. والثاني لا يكون إلا لغرض للعاقل، إما دنيوي كعوض مالي، أو معنوي كثناء جميل أو خدمة واستمتاع، كما في النفقة على الأهل. وما كان لعوض مالي كان مبادلة لا مباذلة. أو هو بالنظر إلى الأغلب، وتنزيل غيره منزلة العدم كما قيل:
عدنا في زماننا ** عن حديث المكارم

من كفى الناس شره ** فهو في جود حاتم

أفاده الشهاب.
وقال ابن كثير: إن الله تعالى يصف الإنسان من حيث هو، إلا من وفقه الله وهداه، فإن البخل والجزع والهلع صفة له. كما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19- 22] ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز.
الثالث: ذكر هذه الآية إثر ما قبلها، لتقرير انفراده تعالى بملك خزائن الرحمة، وسعة كرمه وجوده وإحسانه. كما انفرد بتلك القدرة الباهرة من خلق السماوات والأرض، كي تنجلي لهم قدرته العظمى، وسعة خزائنه الملأى، فيصلوا بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحقية ما يدعوهم إليه.
وذكر هذا المعنى في أسلوب بيان ما فطر عليه الإنسان، تذكيرًا له بنقصه وضعفه، وإشفاقه وحرصه؛ ليعلم أنه غير مخلوق سدى، يُخلى بينه وبين ما تتقاضاه به نفسه وهواه. والمعنى: أفلا تعتبرون بسعة رحمته وعميم فضله ومما يبرهن على وحدانيته في ألوهيته، ولا ترون ما أنتم عليه من أنكم لو ملكتم ما لا نفاد له من خزائنه، لضننتم بها، مما يدلكم على أنه هو مالك الملك، وأنكم مُسخرون لأمره؟! وهذه الآية كقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53] أي: لو أن لهم نصيبًا في ملك الله، لما أعطوا أحدًا شيئًا ولا مقدار نقير. وقد جاء في الصحيحين: «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه». اهـ.